فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (86):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [86].
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي: من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وإنما عبر عنه بالموصول، تفخيماً لشأنه. ووصفاً له بما هو في حيز الصلة، وإعلاماً بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: من يتوكل علينا برده.

.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [87].
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي: ولكن رحمة من ربك تركته غير مُشاءٍ الذهاب به بل تولت حفظه.
قال الزمخشري: وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه. فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما. وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} أي: تفضله بالإيحاء والتعليم الرباني، والاصطفاء للرسالة.
ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل، وأنه وحي رباني، بقوله:

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [88].
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ} أي: اتفقت: {عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} أي: معيناً. وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك، مع طول الزمن، دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة.

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} [89].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي: رددنا وكررنا وبينا: {لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي: من كل معنى، هو كالمثل في غرابته وحسنه، ليتقرر ويرسخ في نفوسهم، ويزدادوا تدبراً وإذعاناً. فكان حالهم على العكس، إذ لم يزدادوا إلا كفراً، كما قال سبحانه: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} أي: جحوداً.
ولما تبين إعجاز القرآن، وأنه الآية الكبرى، ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله:

.تفسير الآيات (90- 93):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [90- 93].
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً} أي: تشقق لنا من أرض مكة عيوناً.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي: بستان منهما: {فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً} وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح؛ لأنهم كانوا يَرِدُونَ بلاد الشام والعراق، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار.
قال ابن جرير فيما رواه، إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا. فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق. ثم زادوا في الاقتراح فقالوا:
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} أي: قطعاً بالعذاب: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائكَةِ قَبِيلاً} أي: كفيلاً بما تقول، شاهداً بصحته.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} أي: ذهب: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أي: وحده: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} أي: كتاباً من السماء، فيه تصديقك: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} أي: تنزيهاً له. والمراد به التعجب من اقتراحاتهم: {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أي: كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، حسبما يلائم حال قومهم. ولم يمكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها.
تنبيه:
لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه، وبحكمته وجلاله. وبيان ذلك- كما في كتاب لسان الصدق- أن ما اقترحته قريش فيها:
منه ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض. وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر؛ لمصالح يعلمها هو جلت عظمته، ولا يعلمها الخلق. فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء. مع أن مثله لا تثبت به النبوة. فإننا نعلم أن أناساً قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء.
ومنه ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} فإن إنزال السماء قطعاً مقتض لهلاك العالم بحذافيره. والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم. ومنه ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلاً وهو قولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائكَةِ قَبِيلاً} فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون. فلا يجوز طلبه، وليس من أنواع المعجز.
ومنه ما لا يصلح للأنبياء، ولو حصل لم يكن معجزاً وهو قولهم: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} فإن هذا غير صالح للأنبياء. وليس بمعجز، لحصول مثله عند أشباه فرعون.
ومنه ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} فيه- على ما ذكر في الرواية- من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان، لقوم من قريش بأسمائهم. أما بعد: فإن محمداً رسولي فآمنوا به. والصعود في السماء لا مرية فيه، لأنهم قالوا: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} فلو كان، لكان عبثاً. وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل. والوحي مختص بالأنبياء، والكفار عنه معزولون. فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزاً، وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها، أو لأمر آخر اقترحوها تكبراً وتعنتاً وجهلاً، على أنهم بعد تلك الأقوال كلها، قال قائل منهم: وأيم الله! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111]، فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه، هو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أي: تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول. عليَّ أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم. وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إلي. وذلك ما تحديتكم بالإتيان بسورة مثله في الهداية والإصلاح، كما أمرني ربي. ولا أقترح عليه، سبحانه، ما لا يجوز أن يكون أو ما يكون فعله عبثاً، لخلوه عن الفائدة. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (94):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً} [94].
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أي: الذين حكى تعنتهم: {أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً} أي: إلا تعجبهم من بعثة إنسان رسولاً. بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر. كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] والآيات في ذلك كثيرة. ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته. حتى لو كانت الأرض مستقراً لملائكته، لكانت رسلهم منهم، جرياً على قضية الحكمة.
فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (95):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً} [95].
{قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائكَةٌ يَمْشُونَ} أي: على أقدامهم كما يمشي الإنس: {مُطْمَئِنِّينَ} أي: ساكنين في الأرض قارّين: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً} أي: من جنسهم، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد. ولما كنتم أنتم بشراً، بعثنا فيكم رسلاً منكم، كما قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
تنبيه:
في الآية إشارة حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة، وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك، فمنَّ على الخلق بالرسل، وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة، وخلصهم من التخبط، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.

.تفسير الآية رقم (96):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [96].
{قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: على أني بلغت ما أرسلت به إليكم، وإنكم كذبتم وعاندتم. وقرر الرازي أن المعني بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن. أي: كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز، شاهداً على صدقي. ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق. فقولكم، معشر المشركين، بعد هذا، يجب أن يكون الرسول ملكاً، تحكم فاسد.
وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وما بعده من التعليل. ثم قال أبو السعود: وإنما لم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة، وإبانة للمباينة. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: عالماً بأحوالهم. فهو مجازيهم. وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة.

.تفسير الآية رقم (97):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [97].
{وَمَن يَهْدِ اللّهُ} أي: إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى: {فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ} أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، كهؤلاء المعاندين: {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ} أي: أنصاراً يهدونهم ويحفظونهم من قهره، وإنما أوثر ضمير الجماعة في {لهم} حملاً على معنى {من} وأوثر في ما قبله الإفراد، حملاً على اللفظ. وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق، وقلة سالكيه، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضُّلالِ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي: يسحبون عليها كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48].
وقال القاشاني: أي: ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا. كقوله «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون» إذ الوجه يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها. أي: على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان. وقوله تعالى: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} أي: كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72]. كذا في الكشاف.
{مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} أي: سكن لهيبها، بأن أكلت جلودهم ولحومهم: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي: توقداً. بأن نبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة.
قال الزمخشري: كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها، ثم يعيدها. لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث. ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.
وقد دل على ذلك بقوله:

.تفسير الآية رقم (98):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [98].
{ذَلِكَ جَزَاؤهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي: لمحيون خلقاً جديداً، بإعادة الروح فينا، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاماً. بل رقت عظامنا فصارت رفاتاً. ثم احتج تعالى عليهم، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله:

.تفسير الآية رقم (99):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً} [99].
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أي: يعلموا: {أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي: يوم القيامة. ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم. والمعنى: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس؛ لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منهن. كما قال: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء، بل هي أهون.
قال الشهاب: ولا حاجة إلى جعل مثل هنا كناية عنهم. كقوله: مثلك لا يبخل مع أنه صحيح. ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة، كان أحسن: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي: جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لابد من انقضائها. كما قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104]، {فَأَبَى الظَّالِمُونَ} أي: بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل: {إَلاَّ كُفُوراً} أي: جحوداً وتمادياً في باطلهم وضلالهم.
لطيفة:
قال الشهاب: هذه الجملة- جملة وجعل الخ- معطوفة على جملة: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} لأنها وإن كانت إنشائية، فهي مؤولة بخبرية- كما في شرح الكشاف إذ معناها: قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة: {وَجَعَلَ لَهُمْ} أي: لإعادتهم: {أَجَلاً} وهو يوم القيامة، يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلاً. فيجب التصديق به. أو جعل لهم أجلاً، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة. ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثاً. فلابد أن يجزى بما عمله في هذه الدار. فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين، لفظاً ومعنى، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} ظاهر على الثاني. وعلى الأول معناه: لا ينبغي إنكاره لمن تدبر. وقيل: إنها معطوفة على قوله: {يَخْلُقَ}.
وقوله تعالى: